سورة الحديد - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


{وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)}
اعلم أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية حال المؤمنين والمنافقين، وذكر الآن حال المؤمنين وحال الكافرين، ثم في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: الصديق نعت لمن كثر منه الصدق، وجمع صدقاً إلى صدق في الإيمان بالله تعالى ورسله وفي هذه الآية قولان:
أحدهما: أن الآية عامة في كل من آمن بالله ورسله وهو مذهب مجاهد قال: كل من آمن بالله ورسله فهو صديق ثم قرأ هذه الآية، ويدل على هذا ما روي عن ابن عباس في قوله: {هُمُ الصديقون} أي الموحدون الثاني: أن الآية خاصة، وهو قول المقاتلين: أن الصديقين هم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم ولم يكذبوا ساعة قط مثل آل ياسين، ومثل مؤمن آل فرعون، وأما في ديننا فهم ثمانية سبقوا أهل الأرض إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته.
المسألة الثانية: قوله: {والشهداء} فيه قولان: الأول: أنه عطف على الآية الأولى والتقدير: إن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء، قال مجاهد: كل مؤمن فهو صديق وشهيد وتلا هذه الآية، جذا القول اختلفوا في أنه لم سمي كل مؤمن شهيد؟ فقال بعضهم لأن المؤمنين هم الشهداء عند ربهم على العباد في أعمالهم، والمراد أنهم عدول الآخرة الذي تقبل شهادتهم، وقال الحسن: السبب في هذا الاسم أن كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه، وقال الأصم: كل مؤمن شهيد لأنه قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من وجوب الإيمان ووجوب الطاعات وحرمة الكفر والمعاصي، وقال أبو مسلم: قد ذكرنا أن الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وجمع صدقاً إلى صدق في الإيمان بالله تعالى ورسله فصاروا بذلك شهداء على غيرهم القول الثاني: أن قوله: {والشهداء} ليس عطفاً على ما تقدم بل هو مبتدأ، وخبره قوله: {عِندَ رَبّهِمْ} أو يكون ذلك صفة وخبره هو قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} وعلى هذا القول اختلفوا في المراد من الشهداء، فقال الفراء والزجاج: هم الأنبياء لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء: 41] وقال مقاتل ومحمد بن جرير: الشهداء هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تعدون الشهداء فيكم؟» قالوا: المقتول، فقال: «إن شهداء أمتي إذاً لقليل»، ثم ذكر أن المقتول شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد الحديث.
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين، أتبعه بذكر حال الكافرين فقال: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم}. ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخرة فقال:


{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المقصود الأصلي من الآية تحقير حال الدنيا وتعظيم حال الآخرة فقال: الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر، ولا شك أن هذه الأشياء أمور محقرة، وأما الآخرة فهي عذاب شديد دائم أو رضوان الله على سبيل الدوام، ولا شك أن ذلك عظيم.
المسألة الثانية: اعلم أن الحياة الدنيا حكمة وصواب، ولذلك لما قال تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً... قَال إِنّي أعلم مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ولولا أنها حكمة وصواب لما قال ذلك، ولأن الحياة خلقه، كما قال: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وأنه لا يفعل العبث على ما قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً} [المؤمنين: 115] وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا} ولأن الحياة نعمة بل هي أصل لجميع النعم، وحقائق الأشياء لا تختلف بأن كانت في الدنيا أو في الآخرة، ولأنه تعالى عظم المنة بخلق الحياة فقال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] فأول ما ذكر من أصناف نعمه هو الحياة، فدل مجموع ما ذكرنا على أن الحياة الدنيا غير مذمومة، بل المراد أن من صرف هذه الحياة الدنيا لا إلى طاعة الله بل إلى طاعة الشيطان ومتابعة الهوى، فذاك هو المذموم، ثم إنه تعالى وصفها بأمور: أولها: أنها {لَعِبٌ} وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جداً، ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة.
وثانيها: أنها {لَهُوَ} وهو فعل الشبان، والغالب أن بعد انقضائه لا يبقى إلا الحسرة، وذلك لأن العاقل بعد انقضائه يرى المال ذاهباً والعمر ذاهباً، واللذة منقضية، والنفس ازدادت شوقاً وتعطشاً إليه مع فقدانها، فتكون المضار مجتمعة متوالية.
وثالثها: أنها {زِينَةُ} وهذا دأب النساء لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح، وعمارة البناء المشرف على أن يصير خراباً، والاجتهاد في تكميل الناقص، ومن المعلوم أن العرضي لا يقاوم الذاتي، فإذا كانت الدنيا منقضية لذاتها، فاسدة لذاتها، فكيف يتمكن العاقل من إزالة هذه المفاسد عنها، قال ابن عباس: المعنى أن الكافر يشتغل طول حياته بطلب زينة الدنيا دون العمل للآخرة، وهذا كما قيل:
حياتك يا مغرور سهو وغفلة ***
ورابعها: {تفاخر بينكم} بالصفات الفانية الزائلة، وهو إما التفاخر بالنسب، أو التفاخر بالقدرة والقوة والعساكر وكلها ذاهبة.
وخامسها: قوله: {وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد} قال ابن عباس: يجمع المال في سخط الله، ويتباهى به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهو ظلمات بعضها فوق بعض، وأنه لا وجه بتبعية أصحاب الدنيا يخرج عن هذه الأقسام، وبين أن حال الدنيا إذا لم يخل من هذه الوجوه فيجب أن يعدل عنها إلى ما يؤدي إلى عمارة الآخرة، ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلاً، فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} يعني المطر، ونظيره قوله تعالى: {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَاء} [الكهف: 45] والكاف في قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} موضعة رفع من وجهين:
أحدهما: أن يكون صفة لقوله: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ}، والآخر: أن يكون خبراً بعد خبر قاله الزجاج، وقوله: {أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} فيه قولان: الأول: قال ابن مسعود: المراد من الكفار الزراع قال الأزهري: والعرب تقول للزارع: كافر، لأنه يكفر البذر الذي يبذره بتراب الأرض، وإذا أعجب الزراع نباته مع علمهم به فهو في غاية الحسن الثاني: أن المراد بالكفار في هذه الآية الكفار بالله وهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا وحرثها من المؤمنين، لأنهم لا يرون سعادة سوى سعادة الدنيا، وقوله: {نَبَاتُهُ} أي ما نبت من ذلك الغيث، وباقي الآية مفسر في سورة الزمر.
ثم إنه تعالى ذكر بعده حال الآخرة فقال: {وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي لمن كانت حياته بهذه الصفة، ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته، وذلك لأنه لما وصف الدنيا بالحقارة وسرعة الانقضاء، بين أن الآخرة إما عذاب شديد دائم، وإما رضوان، وهو أعظم درجات الثواب، ثم قال: {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور} يعني لمن أقبل عليها، وأعرض بها عن طلب الآخرة، قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم الوسيلة.


{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}
ثم قال تعالى: {سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} والمراد كأنه تعالى قال: لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه، بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة.
واعلم أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله: {سَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} ثم شرح هاهنا كيفية تلك المسارعة، فقال: {سارعوا} مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار، وقوله: {إلى مَغْفِرَةٍ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: لا شك أن المراد منه المسارعة إلى ما يوجب المغفرة، فقال قوم المراد سابقوا إلى التوبة، وقال آخرون: المراد سابقوا إلى سائر ما كلفتم به فدخل فيه التوبة، وهذا أصح لأن المغفرة والجنة لا ينالان إلا بالانتهاء عن جميع المعاصي والاشتغال بكل الطاعات.


المسألة الثانية: احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية، فقالوا: هذه الآية دلت على وجوب المسارعة، فوجب أن يكون التراخي محظوراً، أما قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} وقال: في آل عمران {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والأرض} [آل عمران: 133]، فذكروا فيه وجوهاً أحدها: أن السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكانت الجنة في عرضها، هذا قول مقاتل.
وثانيها: قال: عطاء (عن) ابن عباس يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه الصفة.
وثالثها: قال السدي: إن الله تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها، فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك.
ورابعها: أن هذا تمثيل للعبادة بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم، وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض وهذا قول الزجاج.
وخامسها: وهو اختيار ابن عباس أن الجنان أربعة، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وقال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] فالمراد هاهنا تشبيه واحدة من تلك الجنان في العرض بالسموات السبع والأرضين السبع.
ثم قال تعالى: {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج جمهور الأصحاب بهذا على أن الجنة مخلوقة، وقالت المعتزلة هذه الآية: لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين:
الأول: أن قوله تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] يدل على أن من صفتها بعد وجودها أن لا تفنى، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى: {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] الثاني: أن الجنة مخلوقة وهي الآن في السماء السابعة، ولا يجوز مع أنها في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات، قالوا: فثبت بهذين الوجهين أنه لابد من التأويل، وذلك من وجهين:
الأول: أنه تعالى لما كان قادراً لا يصح المنع عليه، وكان حكيماً لا يصح الخلف في وعده، ثم إنه تعالى وعد على الطاعة بالجنة، فكانت الجنة كالمعدة المهيأة لهم تشبيهاً لما سيقع قطعاً بالواقع، وقد يقول المرء لصاحبه: (أعدت لك المكافأة) إذا عزم عليها، وإن لم يوجدها، والثاني: أن المراد إذا كانت الآخرة أعدها الله تعالى لهم كقوله تعالى: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} [الأعراف: 50] أي إذا كان يوم القيامة نادى الجواب: أن قوله: {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ} عام، وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} مع قوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} خاص، والخاص مقدم على العام، وأما قوله ثانياً: الجنة مخلوقة في السماء السابعة قلنا: إنها مخلوقة فوق السماء السابعة على ما قال عليه السلام في صفة الجنة: سقفها عرش الرحمن وأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه، أليس أن العرش أعظم المخلوقات، مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة.
المسألة الثانية: قوله: {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} فيه أعظم رجاء وأقوى أمل، إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله؛ ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر، والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطاعات بحكم تصرف الشرع، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بحرف الباء، فإنه باق على مفهومه الأصلي وهو التصديق، فالآية حجة عليهم، ومما يتأكد به ما ذكرناه قوله بعد هذه الآية: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} يعني أن الجنة فضل لا معاملة، فهو يؤتيها من يشاء من عباده سواء أطاع أو عصى، فإن قيل: فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العصاة، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم؟ قلنا: نقطع بحصول الجنة لهم، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم، لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة وبقوا فيها أبد الآباد، فقد كانت الجنة معدة لهم، فإن قيل: فالمرتد قد آمن بالله، فوجب أن يدخل تحت الآية قلت: خص من العموم، فيبقى العموم حجة فيما عداه.
ثم قال تعالى: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} زعم جمهور أصحابنا أن نعيم الجنة تفضل محض لا أنه مستحق بالعمل، وهذا أيضاً قول الكعبي من المعتزلة، واحتجوا على صحة هذا المذهب بهذه الآية، أجاب القاضي عنه فقال: هذا إنما يلزم لو امتنع بين كون الجنة مستحقة وبين كونها فضلاً من الله تعالى، فأما إذا صح اجتماع الصفتين فلا يصح هذا الاستدلال، وإنما قلنا: إنه لا منافاة بين هذين الوصفين، لأنه تعالى هو المتفضل بالأمور التي يتمكن المكلف معها من كسب هذا الاستحقاق، فلما كان تعالى متفضلاً بما يكسب أسباب هذا الاستحقاق كان متفضلاً بها، قال: ولما ثبت أن قوله: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} لابد وأن يكون مشروطاً بما يستحقه، ولولا ذلك لم يكن لقوله من قبل: {سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} معنى.
واعلم أن هذا ضعيف لأن كونه تعالى متفضلاً بأسباب ذلك الكسب لا يوجب كونه تعالى متفضلاً بنفس الجنة، فإن من وهب من إنسان كاغداً ودواة وقلماً، ثم إن ذلك الإنسان كتب بذلك المداد على ذلك الكاغد مصحفاً وباعه من الواهب، لا يقال: إن أداء ذلك الثمن تفضيل، بل يقال: إنه مستحق، فكذا هاهنا، وأما قوله أولاً إنه لابد من الاستحقاق، وإلا لم يكن لقوله من قبل: {سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ} معنى، فجوابه أن هذا الاستدلال عجيب، لأن للمتفضل أن يشرط في تفضله أي شرط شاء، ويقول: لا أتفضل إلا مع هذا الشرط.
ثم قال تعالى: {والله ذُو الفضل العظيم} والمراد منه التنبيه على عظم حال الجنة، وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه وأثنى بسببه على نفسه، فإنه لابد وأن يكون ذلك العطاء عظيماً.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10